فصل: تفسير الآيات (44- 56):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (44- 56):

{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)}
لما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلاً إلى بيان أن ما هم فيه من الخير والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله، لا من مانع يمنعهم من الهلاك، ولا من ناصر ينصرهم على أسباب التمتع فقال: {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاء وَءَابَاءهُمْ} يعني: أهل مكة متعهّم الله بما أنعم عليهم {حتى طَالَ عَلَيْهِمُ العمر} فاغترّوا بذلك وظنوا أنهم لا يزالون كذلك، فرد سبحانه عليهم قائلاً: {أَفَلاَ يَرَوْنَ} أي أفلا ينظرون فيرون {أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي أرض الكفر ننقصها بالظهور عليها من أطرافها فنفتحها بلداً بعد بلد وأرضاً بعد أرض، وقيل: ننقصها بالقتل والسبي، وقد مضى في الرعد الكلام على هذا مستوفى، والاستفهام في قوله: {أَفَهُمُ الغالبون} للإنكار، والفاء للعطف على مقدّر كنظائره، أي كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافها؟ وفي هذا إشارة إلى أن الغالبين هم المسلمون.
{قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُم بالوحي} أي أخوّفكم وأحذركم بالقرآن، وذلك شأني وما أمرني الله به، وقوله: {وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعاء} إما من تتمة الكلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لهم، أو من جهة الله تعالى. والمعنى: أن من أصمّ الله سمعه وختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة لا يسمع الدعاء. قرأ أبو عبد الرحمن السلمي ومحمد بن السميفع: {ولا يسمع} بضم الياء وفتح الميم على ما لم يسم فاعله. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن الحارث بالتاء الفوقية مضمومة وكسر الميم، أي إنك يا محمد لا تسمع هؤلاء. قال أبو علي الفارسي: ولو كان كما قال ابن عامر لكان: إذا ما تنذرهم، فيحسن نظم الكلام، فأما {إِذَا مَا يُنذَرُونَ} فحسن أن يتبع قراءة العامة. وقرأ الباقون بفتح الياء وفتح الميم ورفع الصم على أنه الفاعل. {وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مّنْ عَذَابِ رَبّكَ} المراد بالنفحة: القليل، مأخوذ من نفح المسك قاله ابن كيسان، ومنه قول الشاعر:
وعمرة من سروات النساء ** تنفَّحُ بالمسك أردانها

وقال المبرد: النفحة: الدفعة من الشيء التي دون معظمه، يقال: نفحه نفحة بالسيف إذا ضربه ضربة خفيفة. وقيل: هي النصيب، وقيل هي الطرف. والمعنى متقارب، أي ولئن مسهم أقلّ شيء من العذاب {لَيَقُولُنَّ ياويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين} أي ليدعون على أنفسهم بالويل والهلاك ويعترفون عليها بالظلم.
{وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} الموازين جمع ميزان، وهو يدل على أن هناك موازين، ويمكن أن يراد ميزان واحد، عبر عنه بلفظ الجمع، وقد ورد في السنة في صفة الميزان ما فيه كفاية، وقد مضى في الأعراف، وفي الكهف في هذا ما يغني عن الإعادة.
والقسط: صفة للموازين. قال الزجاج: قسط: مصدر يوصف به، تقول: ميزان قسط وموازين قسط، والمعنى: ذوات قسط، والقسط: العدل. وقرئ: {القصط} بالصاد والطاء، ومعنى {لِيَوْمِ القيامة} لأهل يوم القيامة. وقيل: اللام بمعنى في، أي في يوم القيامة {فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ} قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر برفع مثقال على أن كان تامة، أي إن وقع أو وجد مثقال حبة. وقرأ الباقون بنصب المثقال على تقدير: وإن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين مثقال حبة، كذا قال الزجاج.
وقال أبو عليّ الفارسي: وإن كان الظلامة مثقال حبة. قال الواحدي: وهذا أحسن لتقدّم قوله: {فلا تظلم نفس شيئاً}، ومثقال الشيء ميزانه، أي وإن كان في غاية الخفة والحقارة، فإن حبة الخردل مثل في الصغر {أَتَيْنَا بِهَا} قرأ الجمهور بالقصر، أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها، و{بها} أي بحبة الخردل. وقرأ مجاهد وعكرمة: {آتينا} بالمدّ على معنى: جازينا بها، يقال: آتى يؤاتي مؤاتاة جازى {وكفى بِنَا حاسبين} أي كفى بنا محصين. والحسب في الأصل معناه: العدّ؛ وقيل: كفى بنا عالمين، لأن من حسب شيئاً علمه وحفظه، وقيل: كفى بنا مجازين على ما قدّموه من خير وشرّ. ثم شرع سبحانه في تفصيل ما أجمله سابقاً بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمُ} [الأنبياء: 7] فقال: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} المراد بالفرقان: هنا: التوراة، لأن فيها الفرق بين الحلال والحرام، وقيل: الفرقان هنا هو: النصر على الأعداء كما في قوله: {وَمَا أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41]. قال الثعلبي: وهذا القول أشبه بظاهر الآية، ومعنى {وضياء}: أنهم استضاؤوا بها في ظلمات الجهل والغواية، ومعنى {وذكرا} الموعظة، أي أنهم يتعظون بما فيها، وخصّ المتقين لأنهم الذين ينتفعون بذلك، ووصفهم بقوله: {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} لأن هذه الخشية تلازم التقوى. ويجوز أن يكون الموصول بدلاً من المتقين أو بياناً له، ومحل {بالغيب} النصب على الحال، أي يخشون عذابه وهو غائب عنهم، أو هم غائبون عنه لأنهم في الدنيا، والعذاب في الآخرة. وقرأ ابن عباس وعكرمة: {ضياء} بغير واو. قال الفراء: حذف الواو والمجيء بها واحد، واعترضه الزجاج بأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد {وَهُمْ مّنَ الساعة مُشْفِقُونَ} أي وهم من القيامة خائفون وجلون، والإشارة بقوله: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} إلى القرآن. قال الزجاج: المعنى: وهذا القرآن ذكر لمن تذكر به وموعظة لمن اتعظ به، والمبارك كثير البركة والخير. وقوله: {أنزلناه} صفة ثانية للذكر، أو خبر بعد خبر، والاستفهام في قوله: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} للإنكار لما وقع منهم من الإنكار، أي كيف تنكرون كونه منزلاً من عند الله مع اعترافكم بأن التوراة منزلة من عنده.
{وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ} أي الرشد اللائق به وأمثاله من الرسل، ومعنى {مِن قَبْلُ}: أنه أعطى رشده قبل إيتاء موسى وهارون التوراة.
وقال الفراء: المعنى: أعطيناه هداه من قبل النبوّة، أي وفقناه للنظر والاستدلال لما جنّ عليه الليل فرأى الشمس والقمر والنجم، وعلى هذا أكثر المفسرين، وبالأوّل قال أقلهم {وَكُنَّا بِهِ عالمين} أنه موضع لإيتاء الرشد، وأنه يصلح لذلك، والظرف في قوله: {إِذْ قَالَ لأبِيهِ} متعلق بآتينا أو بمحذوف، أي اذكر حين قال، وأبوه هو آزر {وَقَوْمِهِ} نمروذ ومن اتبعه، والتماثيل: الأصنام. وأصل التمثال: الشيء المصنوع مشابهاً لشيء من مخلوقات الله سبحانه، يقال: مثلت الشيء بالشيء: إذا جعلته مشابهاً له، واسم ذلك الممثل تمثال، أنكر عليهم عبادتها بقوله: {مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عاكفون} والعكوف عبارة عن اللزوم والاستمرار على الشيء، واللام في {لها} للاختصاص، ولو كانت للتعدية لجيء بكلمة على، أي ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها؟ وقيل: إن العكوف مضمن معنى العبادة.
{قَالُواْ وَجَدْنَا ءابَاءنَا لَهَا عابدين} أجابوه بهذا الجواب الذي هو العصا التي يتوكأ عليها كل عاجز، والحبل الذي يتشبث به كل غريق، وهو التمسك بمجرد تقليد الآباء، أي وجدنا آباءنا يعبدونها فعبدناها اقتداء بهم ومشياً على طريقتهم، وهكذا يجيب هؤلاء المقلدة من أهل هذه الملة الإسلامية، وإن العالم بالكتاب والسنّة إذا أنكر عليهم العمل بمحض الرأي المدفوع بالدليل قالوا: هذا قد قال به إمامنا الذي وجدنا آباءنا له مقلدين وبرأيه آخذين، وجوابهم: هو ما أجاب به الخليل ها هنا {قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَءَابَاؤُكُمْ فِي ضلال مُّبِينٍ} أي في خسران واضح ظاهر لا يخفى على أحد ولا يلتبس على ذي عقل، فإن قوم إبراهيم عبدوا الأصنام التي لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع ولا تبصر، وليس بعد هذا الضلال ضلال، ولا يساوي هذا الخسران خسران، وهؤلاء المقلدة من أهل الإسلام استبدلوا بكتاب الله وبسنّة رسوله كتاباً قد دوّنت فيه اجتهادات عالم من علماء الإسلام زعم أنه لم يقف على دليل يخالفها، إما لقصور منه أو لتقصير في البحث فوجد ذلك الدليل من وجده وأبرزه واضح المنار:
كأنه علم في رأسه نار

وقال: هذا كتاب الله أو هذه سنّة رسوله، وأنشدهم:
دعوا كل قول عند قول محمد ** فما آمن في دينه كمخاطر

فقالوا كما قال الأوّل:
ما أنا إلا من غزية إن غوت ** غويت وأن ترشد غزية أرشد

وقد أحسن من قال:
يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ** ومنهج الحقّ له واضح

ثم لما سمع أولئك مقالة الخليل قالوا: {أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين} أي أجادّ أنت فيما تقول أم أنت لاعب مازح؟ قال: مضرباً عما بنوا عليه مقالتهم من التقليد: {بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السموات والأرض *الذى فطَرَهُنَّ} أي خلقهنّ وأبدعهنّ {وَأَنَاْ على ذلكم} الذي ذكرته لكم من كون ربكم هو ربّ السموات والأرض دون ما عداه {مّنَ الشاهدين} أي العالمين به المبرهنين عليه، فإن الشاهد على الشيء هو من كان عالماً به مبرهناً عليه مبيناً له.
وقد أخرج أحمد والترمذي، وابن جرير في تهذيبه، وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن عائشة أن رجلاً قال: يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم، فإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك، وإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا عليك ولا لك، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتصّ لهم منك الفضل»، فجعل الرجل يبكي ويهنف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أما تقرأ كتاب الله: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حاسبين}» فقال له الرجل: يا رسول الله، ما أجد لي ولهم خيراً من مفارقتهم أشهدك أنهم أحرار. رواه أحمد هكذا: حدّثنا أبو نوح قراد، أخبرنا ليث بن سعد عن مالك بن أنس عن الزهري عن عروة، عن عائشة فذكره، وفي معناه أحاديث.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر عن ابن عباس أنه كان يقرأ: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء}.
وأخرج عبد بن حميد عن أبي صالح {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان} قال: التوراة.
وأخرج ابن جرير عن قتادة نحوه.
وأخرج ابن جرير عن ابن زيد قال: {الفرقان}: الحقّ.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ} أي القرآن.
وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا إبراهيم رُشْدَهُ} قال: هديناه صغيراً، وفي قوله: {مَا هذه التماثيل} قال: الأصنام.

.تفسير الآيات (57- 70):

{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)}
قوله: {وتالله لأكِيدَنَّ أصنامكم} أخبرهم أنه سينتقل من المحاجة باللسان إلى تغيير المنكر بالفعل ثقة بالله سبحانه ومحاماة على دينه. والكيد: المكر، يقال: كاده يكيده كيداً ومكيدة، والمراد هنا الاجتهاد في كسر الأصنام. قيل: إنه عليه الصلاة والسلام قال ذلك سرّاً. وقيل: سمعه رجل منهم {بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} أي بعد أن ترجعوا من عبادتها ذاهبين منطلقين. قال المفسرون: كان لهم عيد في كل سنة يجتمعون فيه، فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا، فقال إبراهيم هذه المقالة. والفاء في قوله: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} فصيحة، أي فولوا، فجعلهم جذاذاً، الجذّ: القطع والكسر، يقال: جذذت الشيء قطعته وكسرته، والواحد: جذاذة، والجذاذ ما كسر منه. قاله الجوهري. قال الكسائي: ويقال لحجارة الذهب: الجذاذ؛ لأنها تكسر. قرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن: {جذاذاً} بكسر الجيم، أي كسراً وقطعاً، جمع جذيذ، وهو الهشيم، مثل خفيف وخفاف، وظريف وظراف. قال الشاعر:
جذذ الأصنام في محرابها ** ذاك في الله العليّ المقتدر

وقرأ الباقون بالضم، واختار هذه القراءة أبو عبيد وأبو حاتم، أي الحطام والرفات، فعال بمعنى مفعول، وهذا هو الكيد الذي وعدهم به. وقرأ ابن عباس وأبو السماك {جذاذاً} بفتح الجيم {إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ} أي للأصنام {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} أي إلى إبراهيم {يَرْجِعُونَ} فيحاجهم بما سيأتي فيحجهم؛ وقيل: لعلهم إلى الصنم الكبير يرجعون فيسألونه عن الكاسر، لأن من شأن المعبود أن يرجع إليه في المهمات، فإذا رجعوا إليه لم يجدوا عنده خبراً، فيعلمون حينئذٍ أنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضرراً، ولا تعلم بخير ولا شرّ، ولا تخبر عن الذي ينوبها؛ من الأمر، وقيل: لعلهم إلى الله يرجعون، وهو بعيد جدّاً.
{قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِئَالِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين} في الكلام حذف، والتقدير: فلما رجعوا من عيدهم ورأوا ما حدث بآلهتهم قالوا هذه المقالة، والاستفهام للتوبيخ. وقيل: إن {من} ليست استفهامية، بل هي مبتدأ وخبرها {إنه لمن الظالمين} أي فاعل هذا ظالم، والأوّل أولى لقولهم: {سَمِعْنَا فَتًى} إلخ، فإنه قال بهذا بعضهم مجيباً للمستفهمين لهم، وهذا القائل هو الذي سمع إبراهيم يقول: {تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم} ومعنى {يَذْكُرُهُمْ}: يعيبهم، وقد سبق تحقيق مثل هذه العبارة، وجملة: {يُقَالُ لَهُ إبراهيم} صفة ثانية لفتى. قال الزجاج: وارتفع إبراهيم على معنى: يقال له هو إبراهيم، فهو على هذا خبر مبتدأ محذوف، وقيل: ارتفاعه على أنه مفعول ما لم يسمّ فاعله، وقيل: مرتفع على النداء.
ومن غرائب التدقيقات النحوية، وعجائب التوجيهات الإعرابية، أن الأعلم الشنتمري الأشبيلي قال: إنه مرتفع على الإهمال.
قال ابن عطية: ذهب إلى رفعه بغير شيء. والفتى: هو الشاب، والفتاة الشابة.
{قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس} القائلون هم السائلون، أمروا بعضهم أن يأتي به ظاهراً بمرأى من الناس. قيل: إنه لما بلغ الخبر نمروذ وأشراف قومه كرهوا أن يأخذوه بغير بينة، فقالوا هذه المقالة، ليكون ذلك حجة عليه يستحلون بها منه ما قد عزموا على أن يفعلوه به. ومعنى {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}: لعلهم يحضرون عقابه حتى ينزجر غيره عن الاقتداء به في مثل هذا. وقيل: لعلهم يشهدون عليه بأنهم رأوه يكسر الأصنام، أو لعلهم يشهدون طعنه على أصنامهم. وجملة: {قَالُواْ ءَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِئَالِهَتِنَا يإبراهيم} مستأنفة جواب سؤال مقدّر، وفي الكلام حذف تقديره: فجاء إبراهيم حين أتوا به فاستفهموه هل فعل ذلك لإقامة الحجة عليه في زعمهم.
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} أي قال إبراهيم مقيماً للحجة عليهم مبكتاً لهم، بل فعله كبيرهم هذا مشيراً إلى الصنم الذي تركه ولم يكسره {فاسألوهم إن كانوا ينطقون} أي إن كانوا ممن يمكنه النطق ويقدر على الكلام ويفهم ما يقال له، فيجيب عنه بما يطابقه. أراد عليه الصلاة والسلام أن يبين لهم أن من لا يتكلم ولا يعلم ليس بمستحق للعبادة، ولا يصح في العقل أن يطلق عليه أنه إله. فأخرج الكلام مخرج التعريض لهم بما يوقعهم في الاعتراف بأن الجمادات التي عبدوها ليست بآلهة، لأنهم إذا قالوا: إنهم لا ينطقون، قال لم: فكيف تعبدون من يعجز عن النطق، ويقصر عن أن يعلم بما يقع عنده في المكان الذي هو فيه؟ فهذا الكلام من باب فرض الباطل مع الخصم حتى تلزمه الحجة ويعترف بالحق، فإن ذلك أقطع لشبهته وأدفع لمكابرته. وقيل: أراد إبراهيم عليه السلام بنسبة الفعل إلى ذلك الكبير من الأصنام أنه فعل ذلك لأنه غار وغضب من أن يعبد وتعبد الصغار معه إرشاداً لهم إلى أن عبادة هذه الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تدفع لا تستحسن في العقل مع وجود خالقها وخالقهم، والأوّل أولى. وقرأ ابن السميفع: {بل فعله} بتشديد اللام على معنى بل فلعل الفاعل كبيرهم.
{فَرَجَعُواْ إلى أَنفُسِهِمْ} أي: رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته المتفطن لصحة حجة خصمه المراجع لعقله، وذلك أنهم تنبهوا وفهموا عند هذه المقاولة بينهم وبين إبراهيم أن من لا يقدر على دفع المضرّة عن نفسه ولا على الإضرار بمن فعل به ما فعله إبراهيم بتلك الأصنام، يستحيل أن يكون مستحقاً للعبادة، ولهذا {قَالُواْ إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون} أي قال بعضهم لبعض: أنتم الظالمون لأنفسكم بعبادة هذه الجمادات، وليس الظالم من نسبتم الظلم إليه بقولكم: إنه لمن الظالمين {ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ} أي رجعوا إلى جهلهم وعنادهم، شبه سبحانه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشيء أعلاه.
وقيل: المعنى: أنهم طأطئوا رؤوسهم خجلاً من إبراهيم، وهو ضعيف؛ لأنه لم يقل: نكسوا رؤوسهم بفتح الكاف وإسناد الفعل إليهم حتى يصح هذا التفسير، بل قال: نكسوا على رؤوسهم، وقرئ: {نكسوا} بالتشديد، ثم قالوا بعد أن نكسوا مخاطبين لإبراهيم {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاء يَنطِقُونَ} أي: قائلين لإبراهيم لقد علمت أن النطق ليس من شأن هذه الأصنام، فقال إبراهيم مبكتاً لهم ومزرياً عليهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً} من النفع {وَلاَ يَضُرُّكُمْ} بنوع من أنواع الضرر، ثم تضجر عليه السلام منهم، فقال: {أُفّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} وفي هذا تحقير لهم ولمعبوداتهم، واللام في {لكم} لبيان المتأفف به، أي لكم ولآلهتكم، والتأفف: صوت يدلّ على التضجر {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي ليس لكم عقول تتفكرون بها، فتعلمون هذا الصنع القبيح الذي صنعتموه.
{قَالُواْ حَرّقُوهُ} أي قال بعضهم لبعض لما أعيتهم الحيلة في دفع إبراهيم، وعجزوا عن مجادلته، وضاقت عليهم مسالك المناظرة، حرّقوا إبراهيم. انصرافاً منهم إلى طريق الظلم والغشم، وميلاً منهم إلى إظهار الغلبة بأي وجه كان، وعلى أيّ أمر اتفق، ولهذا قالوا: {وانصروا ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فاعلين} أي انصروها بالانتقام من هذا الذي فعل بها ما فعل إن كنتم فاعلين للنصر. وقيل: هذا القائل هو نمروذ؛ وقيل: رجل من الأكراد. {قُلْنَا يا نار كُونِي بَرْداً وسلاما على إبراهيم} في الكلام حذف تقديره: فأضرموا النار، وذهبوا بإبراهيم إليها، فعند ذلك قلنا: يا نار كوني ذات بردٍ وسلامٍ. وقيل: إن انتصاب {سلاماً} على أنه مصدر لفعل محذوف، أي وسلمنا سلاماً عليه {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً} أي مكراً {فجعلناهم الاخسرين} أي أخسر من كل خاسر؛ ورددنا مكرهم عليهم؛ فجعلنا لهم عاقبة السوء؛ كما جعلنا لإبراهيم عاقبة الخير.
وقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مرّوا عليه، فقالوا: يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال: إني سقيم، وقد كان بالأمس، قال: {تالله لأَكِيدَنَّ أصنامكم بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ} فسمعه ناس منهم. فلما خرجوا انطلق إلى أهله، فأخذ طعاماً ثم انطلق إلى آلهتهم فقرّبه إليهم، فقال: ألا تأكلون؟ فكسرها إلا كبيرهم، ثم ربط في يده الذي كسر به آلهتهم، فلما رجع القوم من عيدهم دخلوا، فإذا هم بآلهتهم قد كسرت، وإذا كبيرهم في يده الذي كسر به الأصنام، قالوا: من فعل هذا بآلهتنا؟ فقال الذين سمعوا إبراهيم يقول: {تالله * لاكِيدَنَّ أصنامكم}: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} فجادلهم عند ذلك إبراهيم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {جُذَاذاً} قال: حطاماً.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه قال: فتاتاً.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه أيضاً: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا} قال: عظيم آلهتهم.
وأخرج أبو داود والترمذي وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم يكذب إبراهيم في شيء قط إلا في ثلاث كلهنّ في الله: قوله: {إِنّي سَقِيمٌ} ولم يكن سقيماً، وقوله لسارة: أختي، وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا}» وهذا الحديث هو في الصحيحين من حديث أبي هريرة بأطول من هذا.
وقد روى نحو هذا أبو يعلى من حديث أبي سعيد.
وأخرح ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لما جمع لإبراهيم ما جمع، وألقي في النار جعل خازن المطر يقول: متى أومر بالمطر فأرسله؟ فكان أمر الله أسرع، قال الله: {كُونِي بَرْداً وسلاما} فلم يبق في الأرض نار إلا طفئت.
وأخرج أحمد وابن ماجه وابن حبان وأبو يعلى وابن أبي حاتم والطبراني عن عائشة؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن إبراهيم حين ألقي في النار لم تكن دابة إلا تطفئ عنه النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله».
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر عن ابن عمر، قال: أوّل كلمة قالها إبراهيم حين ألقي في النار {حسبنا الله ونعم الوكيل} [آل عمران: 173].
وأخرج ابن أبي حاتم عن السديّ في قوله: {قُلْنَا يانار كُونِي} قال: كان جبريل هو الذي ناداها.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: لو لم يتبع بردها سلاماً لمات إبراهيم من بردها.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وأحمد في الزهد، وعبد ابن حميد وابن جرير وابن المنذر عن عليّ نحوه.
وأخرج ابن جرير عن معتمر بن سليمان التيمي عن بعض أصحابه قال: جاء جبريل إلى إبراهيم وهو يوثق ليلقى في النار، فقال: يا إبراهيم، ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر عن كعب قال: ما أحرقت النار من إبراهيم إلا وثاقه.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن المنهال بن عمرو قال: أخبرت أن إبراهيم ألقي في النار، فكان فيها إما خمسين وإما أربعين، قال: ما كنت أياماً وليالي قط أطيب عيشاً إذ كنت فيها، وددت أن عيشي وحياتي كلها مثل عيشي إذ كنت فيها.